المادة    
[وتارة يوطِّن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف، وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم، فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: ((الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً))[النساء:69].
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: "حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم".
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [[السُنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم؛ فكذلك فكونوا]].]
اهـ.
إن كثيراً من عبارات ابن أبي العز رحمه الله تعالى في موضوع الجماعة هي في أصلها منقولة عن كتاب إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم رحمه الله.
وفي كلام ابن القيم رحمه الله زيادة فائدة عما نقله عنه ابن أبي العز رحمه الله في مسألة الجماعة، وهي التي ذكرت استطراداً ضمن موضوع الاستيحاش من الوحدة في طريق الحق، وأن بعض الناس يضعف صبره واحتماله للمضي في طريق الحق، إذا رأى أن السالكين فيه قليل، وأن أكثر الخلق في الطريق الآخر، وهذا مما يدخل ضمن أمراض القلوب، وهو من أسباب عدم قبول القلب للعلاج.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الباب العاشر من كتابه إغاثة اللهفان: (في علامات مرض القلب وصحته): "قال عمرو بن ميمون الأودي: [[صحبت معاذاً بـاليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس ؛ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة وصلوا معهم، فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة، وهي نافلة؟! قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة! الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك]]، وفي طريق أخرى: [[فضرب على فخذي وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل]]، قال نعيم بن حماد: [[يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ]] ذكره البيهقي وغيره".
عن عمرو بن ميمون الأودي -عمرو بن ميمون الأودي رضي الله تعالى عنه، هذا التابعي الجليل- قال: [[صحبت معاذاً بـاليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام ]]؛ لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه توفي بالطاعون الذي عمَّ بلاد الشام في أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الثامنة عشرة للهجرة.
يقول: [[... ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود ]]، ثم انتقل بعد ذلك إلى الكوفة حيث تلقى العلم على يد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وما كان علماً بحتاً مجرداً كما هو الحال اليوم، بل كانوا يأخذون منهم العلم والإيمان والهدي، والسمت والخلق، فكانوا يتأسون بهم في كل ما يعلمون أنهم يتأسون فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه القصة..
يقول: [[سمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة]]، هذا عبد الله بن مسعود يكرر هذه الوصية وهي من الوصايا المؤكدة في ديننا التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلزوم الجماعة من الأمور المؤكدة في دين الإسلام، لكن ما هي الجماعة؟ ما معناها؟ هذا ما سيأتي إيضاحه.
قال: "ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: [[سيلي عليكم ولاةٌ يؤخرون الصلاة عن مواقيتها؛ فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة]] وهذا أيضاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وإرشاده لهم في معاملة أمراء آخر الزمان، حيث تكثر الفتن، وحيث يعرف الإنسان منهم وينكر، فما الموقف حينئذٍ ولا سيما في أداء الصلاة؛ هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟ فقال:[[ صلوا الصلاة لميقاتها فإنها فريضة، ثم صلوا معهم؛ فإنها لكم نافلة]] هذا إذا صلوا بعد الوقت؛ قال: [[قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة، فإنها لك نافلة]].
فهذا هو محل التساؤل عند عمرو بن ميمون الأودي رضي الله تعالى عنه؛ يقول: كيف يبدر منكم هذا -يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- وأنتم أصحاب المنهاج المستقيم الذي لا اضطراب فيه ولا تناقض ولا اختلاف أبداً، لأنه حق واضح جلي مستقيم؟! كيف تأمرني بأمرين متناقضين، في الظاهر تقول لي: الزم الجماعة، وتقول لي: إذا دخلت الفريضة فصلها في وقتها، ثم صلها مع أمراء الجور إذا صلوا بعد الوقت، فإنها لك نافلة، كيف نجمع بين هذين الأمرين؟
ألست تأمرني بالجماعة؟! مقتضى ذلك -كما يبدو- أن أصلي معهم وإن أخروا؛ لأنني مأمور بالجماعة، أو ألا أصلي معهم مطلقاً؛ لأنهم يؤخرون، وتأخيرهم الصلاة عن وقتها لا يجوز، فيجب عليَّ أن أصليها في وقتها، وينتهي الأمر.
إن اجتماع الأمرين كما أمر بهما ابن مسعود رضي الله عنه يدلنا على حكمة هذا الدين العظيمة في التعامل، وهو أن الإنسان في زمن الاستقامة وفي الوقت الذي يستطيع فيه أن يؤدي ما أمره الله تعالى به على أحسن وجه وأكمله فإنه يؤديه كذلك، فإذا حصلت الفتنة، فإن الإنسان يبحث عن المخرج من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل السلف الصالح ويراعي المصلحة التي أمر الله بها ما أمكن.
فإن كان في فعل السنة أو فعل أحد جانبي الأمر إخلالاً بمصلحة وسبباً لوقوع فتنة لا يؤمن شرها، فماذا يفعل الإنسان في مثل هذه الحالة؟
إن صلى الصلاة في وقتها وترك الصلاة معهم، قالوا: هذا يكفرنا، هذا لا يرى الصلاة خلفنا، هذا من الخوارج، هذا يعتقد فينا كذا، هذا يظن بنا كذا... فيقع في مشكلة، وإن لم يصلِّ إلا معهم، ترك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أداء الصلاة في وقتها، فكيف يجمع بين الأمرين؟
فجاء المخرج بأن الإنسان يصلي الصلاة لوقتها وهي الفريضة، ثم يصليها معهم وتكون له نافلة، لكن ليس هذا هو الشاهد؛ فالشاهد هو كيف يكون الأمر بالجماعة مع وجود هذا الذي يظنه عمرو بن ميمون رضي الله تعالى عنه شيئاً من الاضطراب والاختلاف؛ فبماذا أجابه هذا الحبر الفقيه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؟
قال: [[يا عمرو بن ميمون ! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟]] كأنه يقول: أولاً: أنا أصحح لك مفهوم الجماعة؛ واعرفك ما هي الجماعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها وبملازمتها؛ حتى لا تستغرب قولي لك: صلِّ وحدك وأنت مأمورٌ بأن تكون مع الجماعة؛ فإذا عرفت الجماعة عرفت بعد ذلك الأحكام التي تترتب عليها.
قال: [[قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة]].
الناس اليوم تنظر إلى الجماعة بأنها الكثرة، وهذا غير صحيح؛ فجمهور الجماعة فارقوا الجماعة؛ لأن أكثر الناس مخالفين للجماعة -وهذا في زمن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه- وقد قال له ذلك هذا ليبين له أن المسألة مهمة، وأنها خطيرة، فيجب أن تكون لديه في موضع الاهتمام، فلا ينظر إلى العدد ولا إلى الكثرة مطلقاً؛ فإن أكثر الجماعة الذين تراهم وتظن أنهم هم الجماعة فارقوا الجماعة التي هي الجماعة الحقيقية المأمور باتباعها.
قال: [[الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك]] وليست العبرة بالكثرة.
فإذا صليت الصلاة لوقتها فأنت في هذا قد اتبعت الجماعة الحقيقية التي هي اتباع السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن صلاتك مع الأمراء هؤلاء هي صلاة مع الجماعة التي فارقت الجماعة، وحكمتها درء الفتنة؛ حتى لا يقال فيك ما يقال أو يظن بك الظنون.
يقول: "وفي طريقٍ أخرى فضرب على فخذي وقال: [[ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل]].
وقال نعيم بن حماد -يشرح قول ابن مسعود -قال: "يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك".
اتبع ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك أنت الآن، لكن اتبع ما كانت عليه الجماعة التي تحققت فيها الصورة الصحيحة للجماعة، وهي مثلاً: ما كان عليه الخلفاء الراشدون، وما كانت عليه الأمة في أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وأمثاله؛ فقد تحققت فيها الجماعة بمعنييها؛ معنى اجتماع المسلمين على إمامٍ واحد؛ مقيمٍ للسنة، قامع للبدعة، مطيع غير عاصٍ، وهذا مفهوم من مفاهيم الجماعة، والمفهوم الآخر هو اجتماع الأمة على السنة وعلى الهدي النبوي، وليس على أية بدعة من البدع، فإذا اجتمع هذان المفهومان للجماعة؛ فهذه هي الجماعة التي يتمسك بها الإنسان، فإذا اختلفا فعلى الإنسان أن يتبع الحق، وإن كان وحده في أي صورة من الصور.
فعليك أن تتبع الحق، ولا تقل: الجماعة هي الكثرة، فإنما عليك أن تتبع الحق، فإذا ترك الناس ما كان عليه السلف الصالح من هدي وسنة، واتبعوا البدع؛ فاتبع أنت السنة، فتكون أنت الجماعة أو من الجماعة أو موافقاً للجماعة -أي للسنة- في مثل هذه الحالة.
قال: "يعني فإذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك؛ فإنك أنت الجماعة، حينئذٍ".